صعوبة الاعتراف بالإنجازات وضعف تحفيز الآخرين

تقديم /

إنجازاتنا وإنجازات من حولنا كثيرة جدا لا تتوقف على مدار اليوم والساعة، هذه الجهود والإنجازات بحاجة الى ترشيد وتنمية من قبل فئة المربين والقدوات المؤثرين، ويتم ذلك باستيعابهم لمبدأ الاعتراف بالإنجازات وتشجيعها أملا في الحصول على المزيد منها، وتجنب تجاهلها وضعف التفاعل الإيجابي معها الذي يولد الإحباط والشعور بخيبة الأمل لدى من نسعى للتأثير الإيجابي فيهم.

القاعدة الأساسية وفروعها:

ومن هذا المنطلق، يمكن القول إن القاعدة الدالة على رُقي التعامل التربوي مع هذه الإنجازات والمتناسبة مع ما هو مستقر في الفطر السليمة والأخلاق السامية: ” وجوب إحاطة هذه الإنجازات بمزيد من الاهتمام والعناية نظرا لما ينتج عنها من آثار تربوية عميقة في نفوس من يحيطون بنا ويهمنا التأثير الإيجابي فيهم”. ومن هؤلاء: الأبناء والبنات، والأزواج والزوجات، والطلاب والموظفون، وحتى الأصدقاء وكل من يعملون معنا ويحتكون بنا ونأمل التأثير الإيجابي فيهم لتحسين أدائهم في الحياة. وهذا الاهتمام لا يكتمل إلا من خلال الالتزام بثلاثة مبادئ متفرعة عن القاعدة السابقة وهي:

  • الأول: الاعتراف بهذه الإنجازات التي حققها من يحتكون بنا ويعيشون معنا ، باعتبار إن ذلك خلقا تربويا وسلوكا منهجيا يجب أن نتمرن عليه ونتعود على ممارسته.
  • الثاني: فصل الاعتراف بالإنجازات عن حجمها مهما كان ذلك الحجم – من وجهة نظرنا- يسيرا (جدا)، وأن لا ننتظر الإنجازات الكبيرة حتى نعترف بها ونشجعها.
  • الثالث: الإشادة بالإنجازات وتشجيعها معنويا وماديا من خلال الثناء والشكر أو منح الهدايا والعطاء، بغرض التحفيز وبث الحماس، أملا في الوصول الى المزيد من الابداعات وزيادة الإنجازات الرائعة.

 ومن البديهي القول أن هذه المبادئ هي لب وجوهر التربية الرشيدة وسرها المكنون الذي لا يفقهه كثير من المربين (آباء، أمهات، أزواج، زوجات، مدرسين، مدراء …الخ)، وبنفس الوقت هي الزاد  المعنوي المؤثر بفعالية على الروح المعنوية للمتربي التي تحفزه لإنتاج سلسلة لا تنتهي من الإنجازات الصغيرة والإبداعات المتتالية، والتي تثمر مع مرور الزمن إنجازات هائلة، فضلا عن نشوء جيل من المنتجين والمبدعين.

والعكس صحيح؛ فمخالفة العمل بالمبادئ المذكورة ربما يؤدي الى قتل الروح المعنوية لدى المتربي فينتج عنها مع مرور الزمن وتكريس المخالفات التربوية نشوء جيل من المحبطين اليائسين، ضعفاء الهمم،  ومسلوبي الإرادة، فاقدي الأمل والطموح، ولا غرابة ؛ فكل ذلك قد ينتج عن  فعل يسير ذي أثر خطير، هو ضعف مستوى الاهتمام بإنجازاتهم وما يقدمون، وازدراء كل ذلك بدلا عن تشجيعه وشكره والثناء عليه.

وخير مثال على ذلك من حياة المربي القدوة نبينا محمد -عليه الصلاة والسلام- وهو يربي أصحابه، قوله لعبد الله بن عمر – رضي الله عنه-: “نِعْمَ الرَّجُلُ عبدُ اللَّهِ، لو كانَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ”([1])، فكان عبد الله بعد تلك الكلمة لا ينام من الليل إلا قليلا. فانظر الأثر الذي أحدثته كلمة يسيرة صادقة في الموقف المناسب على المتربي.

وفي مثال عكسي: يقول أحدهم ” … في نظر أهلي، أخي دائما هو الطفل النبيه الذي لا يجدون معه معاناة في دراسته واستذكاره، بخلافي أنا حيث كانوا دائمي الشكوى مني ومن مستوى استيعابي لما أدرسه، كانت أمي تعاني عندما تشرح لي درساً وكانت تنعتني دائما “بالغباء” كانت تقول إنني أعاني من صعوبات التعلم، وكانت ببساطة تقارنني بأخي الأجمل والأذكى والأكفأ،  لا تتخيل يا عزيزي القارئ كم المشاعر النفسية التي تحملتها عندما أتلقى صدمات تلك الكلمات، لا تتخيل وقعها وتأثيرها النفسي فيّ، هذه الكلمات عانيت منها على مدار اثني عشر عاماً طوال سنوات دراستي بالمدرسة ، ولو صيغت في صورة قصيدة شعرية لكانت قصيدة طويلة حزينة وكئيبة، وإن جاز للأم أن تتنمر على ابنها جاز لي أن أقول إنني ضحية تنمر طوال تلك السنوات الطوال … “([2]).

سؤال مهم /

فالسؤال المطروح علينا جميعا وعلى على جميع المربين: هل هذه الأمور واضحة وبديهية أم أنها حقائق غائبة عن الجميع؟، وهل يمارس الكثير من المربين الأخطاء التربوية في الواقع العملي بقصد أو بغير قصد، والتي تؤدي الى نتائج وخيمة حسب ما تمت الإشارة اليه آنفا؟. وأتوقع أن القارئ العزيز يوافقني على وجود نقص كبير وخلل عظيم في استيعاب هذه المبادئ وآثارها وجدواها في موضوع التربية.

ضوابط مهمة /

 في هذه السطور نضع بين أيديكم بعض الضوابط التي باستيعابها ربما يقل منسوب التقصير في التربية لدينا والتي هي من صلب مسؤولية المربين على مختلف مستوياتهم وأنواعهم.

الضابط الأول: انجازاتهم كبيرة من وجهة نظرهم فتفاعل معها بإيجابية:

من المعضلات التربوية أن ننظر الى أهمية الإنجازات التي يقدمها المتربون بمقارنتها بمستوانا نحن، وليس بمستواهم (هم)، وهذا خلل تربوي فادح يقع به الكثيرون، فيدفعهم الى احتقارها والتقليل من شأنها، وربما يحلو للبعض التمتع بكثرة انتقادها وإظهار عوارها.

وفي حقيقة الأمر، قد تكون تلك الإنجازات فعلا تافهة وعديمة الفائدة، بل ومضحكة أحيانا من وجهة نظرك كمربي كبير، لكنهم يعتبرون أن إنجازاتهم ذات أهمية كبيرة، ويشعرون بأنهم قد بذلوا جهودا لا يستهان بها، وحققوا أشياء يعتقدون أنها تستحق الإشادة والتقدير، وبنفس الوقت يهمهم رأيك وتشجيعك كثيرا.

الضابط الثاني: احذر أن تقع في مصيدة الاحتقار:

فمن منطلق مسؤوليتك والأمانة التربوية الملقاة على عاتقك، الحذر الشديد من الوقوع في مصيدة الاحتقار وعدم الاعتراف وانعدام التشجيع لإنجازات المتربي مهما كانت صغيرة.  وهذه تعني أنك أضفت الى مشكلة عدم الاعتراف بالإنجازات بعدا سلبيا آخر وهو احتقار جهودهم وانجازاتهم، وهذا يوصل رسالة واضحة اليهم أنك  لا تهتم بمشاعرهم ولا تعنيك فرحتهم بتلك الإنجازات (مهما كانت)، وهو ما يصيبهم  بالإحباط وخيبة الأمل.

ومن البديهي، أن نعترف أن نوايانا  قد تكون طيبة الى حد كبير ، لكننا قد نقع في هذه المصيدة بقصد أو بغير قصد، ومع الأسف فإن النتيجة تكون واحدة، والسبب في ذلك أن المتربي يحكم على ظاهر أقوالنا وأفعالنا، ومن الصعوبة بمكان أن يعلم حقيقة ما نضمره في أعماقنا من نوايا طيبة، وتزداد الصعوبة كلما صغر سن الأشخاص الذين نربيهم ، والكثير منهم -بداهة – يعمل بالأصل وهو الحكم على الظاهر ، ولهم الحجة البالغة علينا، مالم نظهر نوايانا الحسنة بين الفينة والأخرى طالما نحن واقعون في هذه المصيدة.

الضابط الثالث: لا تزيد الطين بِلَّة:

كثير من الناس، مع كل أسف لا يحسنون في التربية ألا أسلوبا (واحدا) ويتقنونه كثيرا، وهو كثرة النقد والاعتراض مصحوبا بالاحتقار، يريدون بذلك الإثبات للضحية وإيصال رسائل الى أعماقه أنه فاشل ولا ينفع لشيء، فتجدهم دائما مسكونون بالتفتيش عن الأخطاء في عمل الضحية، واثبات وقائع جديدة توصل رسائل أكثر تؤكد فشله وعدم صلاحه لشيء.

وبعيدا عن نوايا هؤلاء الطيبة وطبيعة فهمهم لمعنى التربية، فهم يمارسون هذه الأساليب بتلقائية حتى لو لم يعبروا عنها بصراحة، لكن الرسالة (السلبية) تصل الى الضحية بأقوى وأوضح ما يكون.

وبطبيعة الحال، تكون نتيجة اتباع هذا الأسلوب في التعامل إنتاج جيل من المحبطين، ذوي أهداف ضحلة واهتمامات هزيلة، ” لاتُسمن ولا تُغني من جوع”، بل ربما يعيشون بدون أهداف وبدون إبداعات مع ضعف واضح في الإنتاجية. والأدهى من ذلك أن تصبح أهدافهم منحرفة، وابداعاتهم تميل إلى الطريق المعاكس، وإنتاجهم يتحول الى عكس متطلبات مبادئ التربية الحميدة وضد ما تريده أنت ويطلبه المجتمع.

وكنتيجة لذلك،  يصبحون عالة على أسرهم وعلى مجتمعهم، وتصبح الأسرة والمجتمع هي التي تنتج لهم ليأكلون، وتفكر لهم ليعشون، وهذه تماما هي استراتيجية انتاج أجيال من المعوقين والعاطلين والمنحرفين، فانظر كيف “تزيد الطين بِلَّة”.

الضابط الرابع: اعترافك بإنجازاتهم دليل تواضعك:

من دون شك، إذا تواضع الكبير ونزل في مستواه الى مستوى من دونه، فيتفهم ما يقدمون مهما كان مستوى الضعف فيها، فيبين الخلل ونقاط الضعف بأسلوب محبب ومهذب، ثم يشجع ويحفز لمزيد من التصحيح والإنجاز السليم، فهذا دليل صريح على تواضعه وحسن أدبه وأخلاقه الرفيعة التي تعكس قدر مسئوليته التربوية والتعليمية.

وعلى العكس من ذلك، فإن التعالي على البسطاء وخاصة ممن يقعون تحت مسئوليتنا، لهو دليل على ضعف في الأخلاق والإيمان، أما عن نتائجه التربوية فتكون عواقبها وخيمة.

والأسوأ من ذلك التعالي على إنجازات الكبار من الأقران والزملاء ومن هم في مستوى أعلى من مستوانا، فعدم الاعتراف بإنجازاتهم وعدم قبولها والتسليم بها، تحمل معاني هائلة من الغرور وربما الحسد والغيرة.

أمثلة على ما سبق/

مثال على التربية الإيجابية:

ابنك يجتهد فيحِل واجبه المنزلي لمادة الرياضيات وينال درجة كاملة من قبل المعلم. هذا الإنجاز بالنسبة للمعلم ولك أيضا أمر يسير للغاية وقد يكون تافه عندكم، لكن بالنسبة للطالب يعتبره إنجازا غير عادي بما يتناسب مع طريقة تفكيره ومقدار جهده وتوقعاته. وفي هذه الحالة الولد يتوقع من المعلم الاعتراف بإنجازه وتقديره بالثناء والشكر من باب التشجيع والتحفيز. فإذا حصل هذا يأتي ليبشرك بكل فرح وسرور، وهو يتوقع منك (أنت أيضا) هذين الأمرين الاعتراف بالإنجاز ثم الثناء والشكر. وأيضا يتوقع نفس الشيء من الجميع، من الأم ومن الأخ والزميل والصديق، ويكمن السر في ذلك أنه يعتبره حق مكتسب يستحقه كونه إنسان بذل مجهودا ونجح فيه، فهو يرى أنه  يستحق الإشادة والتكريم من الجميع، وهو الموقف الذي يجب أن يكون.

وتجدر الإشارة، أننا إذا دققنا في الأمر سنجده لا يكلفنا أي شيء البتة، فقط يحتاج (كلمة طيبة) يصاحبها مشاعر حانية ناشئة عن الشعور بالمسؤولية والخلق الرفيع والتواضع مع هذا الطالب وأمثاله، والنزول الى مستوى طموحاتهم وتوقعاتهم.

مثال على التربية السلبية:

فإذا لم يُعطِ المعلم هذا الإنجاز الاهتمام المتوقع، تحت مبرر أنه هذا أمر روتينيا، وهو من السهولة بما لا يستحق معه الإشادة. فهنا يكون المعلم قد وقع الفخ الأول وهو عدم الاعتراف بالإنجاز مع بساطته، كما تقدم في الضوابط، وربما صاحب ذلك الوقوع في فخ آخر وهو التعالي الناشئ عن معضلة مقارنة مستوى الطالب بمستواه. وقد يقع في فخ ثالث في حالة التمادي بالنقد اللاذع والسخرية المقيتة التي ربما تقوده إلى التنقيب عن أخطاء وقع فيها الطالب، وكل ذلك ليبرهن المعلم على تفاهة هذا الإنجاز. وكنتيجة لذلك، يُصاب بالصدمة من هذا العمل غير المتوقع تربويا، فهو يعتبره تصرفا ظالما وهضما لحقه المشروع، وهو ما نعنيه بالسلوك غير المسئول.

وناهيك عن ذلك، إذا وصل الطالب الى أبيه، فتجده محتارا في ماذا يعرض له، هل يشرح إنجازه الذي يعتز فيه ويحتاج إلى التقدير والتشجيع، أم يشكو صدمته وإحباطه من معلمه. فاذا صادف أن قابله الوالد بنفس طريقة المدرس واحتقر عمل الولد واستهان به لنفس مبررات المعلم، أو لم يعط الأمر الاهتمام المتوقع، بل ربما يثني على موقف المدرس بصفته المربي القدير -ومستحيل يخطأ-، فهنا تكون صدمة الطالب صدمتان وتحل عليه الفاجعة مرتان. ومع إدمان مماسة هذا السلوك لعدة مرات، يُغلق عقل الولد، ويبدأ بالتفكير في البحث عن طرق للتمرد على أساليبهم الجائرة وطرقهم المتخلفة.

وتفسيرا لذلك نقول، قد يتحمل الطالب جور المدرس وظلمه بحكم احتكاكه القليل والمؤقت به، لكنه لن يتحمل جور الأب باعتباره سنده والمدافع عنه، ويتوقع أن من مسئولية والده حمايته من هذا العبث وأن يجتهد في البحث عما يعينه على النجاح والإبداع، كما يتوقع منه أن يحل مشكلاته التي تصدر من هذا النوع من المعلمين، ولا يمكن أن يتوقع من أبيه عكس هذا الموقف إلا حينما يصل الى قناعة أن الجميع واقعون في الظلم، ولا خير فيهم.

تنبيه /

قد تكون الأمثلة التي أوردناها أعلاه تحمل نوعا من المبالغة، لكننا قصدنا منها تقريب الصورة وتوضيحها لنبرهن على ما أوردناه في الموضوع، ونعلم جميعا أن تفاصيل الصورة لا تتجلى الا بتقريبها الى أقرب قدر ممكن.

مع اعتقادي الجازم أن ما يحصل في الواقع أخف من هذا بكثير، وإن وجدت نماذج شاذة فليس لها وزن كبير في المجتمع، لكنها مع الأسف موجودة في كل مجتمع وفي كل مجال، وتمارس عملها بكل سوء وربما أسوأ مما عرضناه.

 وختاما/

أيها الآباء، أيتها الأمهات، أيها المعلمون، أيها الأزواج أيتها الزوجات أيها المدراء والمسئولون، اعترفوا بإنجازات من حولكم، وشجعوها مهما كانت ضئيلة من وجهة نظركم، حتى تحفزوهم وتدفعوهم للمزيد من الإنجازات والابداعات. واحذروا أن تتحولوا الى معاول هدم لنجاحاتهم وإبداعاتهم وقتل الطموح والآمال في نفوسهم، صغارا كانوا أم كبارا، حينما لا تعترفون بإنجازاتهم وجهودهم وتشجيعها، فضلا عن استخدام أساليب التهكم والسخرية بتلك الجهود ولو كانت متواضعة. فإنكم والحالة هذه تساهمون بقصد أو بغير قصد في خلخلة أسس بناء الأجيال الصالحة التي هي عماد المجتمعات والتي تتكون من الأبناء والطلاب والعمال والموظفين، وحتى الزوجات، والأزواج وكل أفراد المجتمع، فالكثير اليوم يعانون من نفس المعاناة النكدة؛ عدم الاعتراف بإنجازاتهم، وعدم تقديرها وتشجيعها ولو بكلمة (حلوة).

___________________________________________

 المزيد على منصة أريد العالمية للباحثين الناطقين بالعربية

https://portal.arid.my/ar-LY/Posts/Details/30a52839-4d89-403f-b468-9467adba5f2c


[1] – صحيح البخاري

[2] – وفاء متولي، طعنة الإحباط https://pokonline.com/

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s