ترشيد الموارد المالية.. بين التبذير والتقتير (1 / 2)

الجزء 1 / 2
مؤسساتنا وترشيد الانفاق
ترشيد الإنفاق لغز حقيقي يواجه صناع القرار وقادة المؤسسات، وحتى أولياء الأمور في البيوت، وأرباب المال والأعمال في المؤسسات والشركات، فالجميع ينادي اليوم بضرورة ترشيد الإنفاق، والكثير منهم حذرون ويحذِّرون من الوقوع في المحذورين البائسين المصاحبين له وهما: التبذير أو التقتير.
ترشيد الانفاق عبارة جميلة وغاية نبيلة يطمح الجميع لبلوغها خصوصا في ظل الأزمات المالية الخانقة وفي زمن يتسم بندرة الموارد وشحتها، يصاحب كل ذلك التحدي المعاصر الأشد فتكا بموضوع الترشيد وهو خضوع الجميع دون استثناء لسياسات وبرامج الترويج والتسويق المهولة والتي تستهدف دخولاتهم المالية بشتى أنواع الطرق سواء كانت بالأساليب المشروعة أو بالحيل الممنوعة.
ومع أن المفهوم الشائع لحفظ المال وحسن التصرف به هو ترشيد الإنفاق، إلا أن هناك مفاهيم خفية معاكسة تتستر تحت عباءته هما: التبذير والتقتير، وهذه المقالة تناقش العلاقة بين المصطلحات الثلاثة مع ضرب أمثلة واقعية لبيان تلك العلاقة.
وفي البدء نتساءل هل الترشيد يعني انتهاج سياسة خفض المصروفات دون قيود لمواجهة مشكلات العجز المالي المستمرة، إذن[1] كيف ستواجه المؤسسات تحديات تحقيق أهدافها بكفاءة مع رغبتها في التفوق على منافسيها في زمن حدة المنافسة؟
أم أن الترشيد يعني التقليل من كثرة تمويل الأنشطة التي تفضي كما يزعم البعض إلى خسارة المؤسسة مثل: أنشطة الإعلام والدعاية والشراكات والعلاقات العامة وأمثالها، إذن كيف ستعوم المؤسسة بمهارة في محيط المنافسة، وكيف ستكون رقما معتبرا بإزاء أرقام مجاورة تتحدى وجودها، في زمن شعاره الأكبر البقاء للأقوى؟
أم أن الترشيد يعني خفض كافة النفقات بما في ذلك تلك التي تمس عملية الإنتاج المباشر الذي يرفع المؤسسة أو يفنيها، ومنها تلك التي تحافظ على استقرار العاملين ومعاشاتهم ومكافئاتهم وحوافزهم التشجيعية، إذن كيف تضمن المؤسسة رضاهم وولاءهم، وتفضيلهم للبقاء فيها على من سواها من المنافسين، في زمن حدة الاستقطاب للأكفَاء؟
وهل الترشيد يعني الإنفاق على الضروري وغير الضروري بغير ضوابط ولا حسابات معلومة وجدوى مدروسة، إذن والحالة هذه، هل تضمن المؤسسة الاستدامة المالية للإنفاق على مصاريفها التشغيلية وتحقيق التوازن المالي المطلوب للبقاء في الوجود ومواجهة المنافسة؟
فما هو مفهوم الترشيد إذن؟
الترشيد من الرشد والرشاد، وهو الطريق الوسط الذي لا إفراط فيه ولا تفريط، وهي سمة الأمر الرشيد. والقرار الرشيد هو الأمر الذي يراعي كافة المصالح فينميها والمفاسد فيزيلها أو يخففها، بحيث يتم من خلاله التوازن بين كافة الجوانب فلا يُهمل شيئا منها.
والترشيد في الانفاق يعني سلوك المنهج الوسط في صرف الأموال، فلا هدر أو إسراف وهو التبذير، ولا بُخل أو شُح غير محسوب وهو التقتير.
ومن بدائع القرآن الكريم أنه يقرر هذه المنهجية حيث يقول الله تعالى: “والذين إذا أنفقوا لم يُسرفوا ولم يقتُروا وكان بين ذلك قواما“[2] ، والمقصود بالقوام هو الانفاق من غير ضرر عليها أو إضرار بغيرها، وهو ما نسميه الترشيد الذي يقع بين الزيادة عن المعلوم والنقصان عن المطلوب، وهما التبذير والتقتير.
ومن معايير الكفاءة في الإدارة الرشيدة إيجاد هذا التوازن في الانفاق الذي يغيب عن كثير من قادة ومدراء المؤسسات بجميع اشكالها ومستوياتها، وفي هذا الباب يحدث التفاوت الكبير بينهم الذي يؤدي الى التفاوت في التميز المؤسسي لديهم، والمطلوب من الجميع تعلم فقه الإنفاق الرشيد وإتقانه جيدا والتعامل معه باحترافية عالية وتمييزه عن المفهومين المصاحبين؛ التبذير والتقتير في زمن جنون المنافسة، إذا أرادت البقاء وعدم الانقراض.
تطبيقات مؤسسية/
الترشيد في المؤسسات يعني الانفاق على كافة الأنشطة التي تحقق الأهداف بكفاءة، وتعزز وجودها البارز في عالم المنافسة، وهي قسمان: قسم الأنشطة الرئيسة وهي سبب وجود المؤسسة، فإذا انعدمت فلا حاجة لوجودها، وقسم الأنشطة المساندة، وهي التي تعمل على دعم ومساندة الأنشطة الرئيسة، وتزول الحاجة الى هذه الأنشطة إذا توقفت الأنشطة الرئيسة.
متى يعتبر الانفاق بسخاء ترشيدا؟!
وليس من التبذير والإسراف الانفاق بسخاء على الأنشطة التي تحقق الأهداف والأولويات التي لا يقوم العمل بدونها ولا تنمو وتدوم المؤسسة إلا بها، بل إن ذلك يُعد من الوعي القيادي والإداري في نهج المؤسسات الناجحة والمنافسة.
وسبب ذلك أن بقاء المؤسسة في مركز قوي ومنافسة كبيرة مرتبط بتوفر الانفاق السخي على الأنشطة التي تحقق ذلك، وأن التقليل من الانفاق عليها إضعاف لتلك الأنشطة، وقد تحقق ولكن بصعوبة لا تضمن معها جودة الأداء المطلوبة الذي تتطلبه الطبيعة التنافسية في الأعمال.
أمثلة /
- الاهتمام الكبير بالعنصر البشري بحسن اختيار الأفراد ودوام تطويرهم والمحافظة عليهم، مع الإنفاق على ذلك بسخاء، باعتبارهم الذين يصنعون التميز والنجاح بدرجة أساسية، وبالتالي فالمحافظة على رضاهم الكبير وحماسهم العالي هو الوقود الحقيقي الذي يؤهل المؤسسة لتنافس أقرانها، فمهما بذلت في ذلك فهي في نجاح مطرد، لأنها تغذي المصدر الحقيقي للنمو والاستدامة والثراء لديها.
- ومن خلال متابعاتي في مجال التميز المؤسسي، لاحظت توجه العديد من المؤسسات نحو العناية بالعنصر البشرية كأولوية قصوى لا يمكن الاستهانة بها حينما عملوا في الجودة وجوائز التميز، حيث تم التركيز الممنهج عليه باعتباره من أهم ممكنات النجاح لتحقيق الجودة والتميز المؤسسي.
- أما ممارسة البخل أو التقتير في الانفاق على الأفراد فيعني التلاعب برضاهم وحماسهم وعمق ولائهم للمؤسسة الذي يؤدى إلى تقليص حب التضحية لديهم من أجل المؤسسة، وهذا يعتبر لعب بالنار ومن المخاطر الكبرى التي يجب أن تتنبه لها القيادات في رسم سياساتها واستراتيجياتها في زمن اشتعال المنافسة التي لا تعرف الرحمة ولا العواطف في رحلة بحثها عن الأكفاء واستقطابهم اليها.
- وقد يمارس المدراء والمشرفين هذا السلوك بقصد أو بغير قصد، لكن النتيجة تكون واحدة، وهو ما يشكل فرصة ثمينة للمنافسين للانقضاض على أغلى ثروة لديها.
- وقل مثل ذلك في المؤسسات التي لا تنتهج سياسة التحفيز وتشجيع العاملين، واستقطاب الكفاءات الملائمة لعملها بحجة ترشيد الإنفاق، فتقع في الخلط بين مفهومي الترشيد والتقتير، إلى غير ذلك من الأمثلة
السياسات الصحيحة في الترشيد:
يكون الترشيد بمعني التقليص سياسة صحيحة إذا تضمنت تقليص الكثير من الانفاق غير الضروري خاصة الأنشطة والمصروفات التي لا تتعلق بالإنتاج المباشر في المؤسسة، مع الاكتفاء بالإبقاء على الحد المسموح به الذي لا يضر تخفيضه في تسيير الأنشطة التي تساعد في تحقيق أهداف المؤسسة ولا تؤثر في مستوى جودة العمل، حتى لا تقع في التقتير أو التبذير إذا تجاوزت هذا الحد.
ومن أمثلة ذلك: السفريات، الفعاليات الترفيهية، المبالغة في الأثاث والديكورات، وغيرها من المصروفات التي ليس لها تأثير مباشر في الإنتاج.
سيارة السباق والترشيد:
ومثال ذلك لو فكر المتسابق في مضمار سباق السيارات بعدم تعزيز كفاءة السيارة وقدراتها بتغيير الإطارات أو تبديل الزيت مثلا، بحجة الترشيد وبحجة أن الموجود كافي دون اهتمام كبير بهذه الجزئيات، فحينها سوف تكون المغامرة كبيرة في إمكانية تحقيق هدف السباق، وربما يلحق به الضرر الكبير من المفاجآت المتوقعة نتيجة عدم اكتراثه وجديته في الاستعداد الكافي للسباق.
فالسيارة هنا تعبير عن المؤسسة التي تنافس غيرها في مجال الإنتاج والمبيعات والعلاقات والشراكات وغير ذلك من الخدمات، والسائق هو صانع القرار فيها، فقد تتعرض للمخاطر والخسائر إذا لم تكترث لموضوع ترشيد الانفاق بمفهومه السليم.
[1] – اختلف عُلماء الّلغة حول وجود فرقٍ بين (إذنْ)، و(إذاً)، فمنهم من يجد أنّ الأولى كتابتها بالألف المُطلقة: (إذاً)، ومنهم من يرى أنّ رسمها بالنّون هو الصّحيح: “إذنْ”، بالإضافة إلى فئة ثالثة أرادت التّوسّط فاختارت أن تُجيز الكتابة بأيّهما، وذلك انطلاقاً من ألا فرق بينهما إلّا بالرّسم الإملائيّ، وهذا ما ذهب إليه أكثرهم. إقرأ المزيد على موضوع.كوم: https://mawdoo3.com/
[2] – سورة الفرقان الآية 67