قراراتنا الشخصية ومعضلات الواقع العصيب!!

القرارات من أهم وظائف الإنسان في الحياة فهو مجبول من أصل خلقته وتركيبته العقلية على اتخاذ قراراته المختلفة في مختلف سنين عمره، حتى أنه لا يكاد يعمل أي عمل مالم يتخذ فيه قرار حاسم، فماذا يأكل أو يترك، ومتى ينام وفي أي ساعة يقوم، ومتى يسافر ومتى يعود، ومن يصادق ومن يترك، وماذا يلبس وماذا يترك، كلها خيارات نعيشها بطبيعة حياتنا اليومية، وكلها في حاجة إلى حسم اختيار بديل من بين عدد من البدائل المطروحة.

ومع شدة وضوح الأمر في اتخاذا قراراتنا الشخصية وشدة الحاجة إليه، فإننا نغفل عن أهميته في توجيه مسيرة حياتنا حاضرا ومستقبلا، وتحقيق أمالنا وطموحاتنا، وكثيرا ما نقع في الإخفاقات المتتالية نتيجة التردد والحيرة والتضارب في اتخاذ القرارات المناسبة والسهلة بنفس الوقت. يضاف الى ذلك الحساسية من لفظة “القرار” لدى الكثيرين، فيحسبون أنه ترف فكري غير قابل للتطبيق، ويعتقد الكثير أن صنع واتخاذ القرارات مهمة خاصة بفئات محددة من المجتمع مثل القادة والمدراء والرؤساء، ولا يعلمون أن حياتهم برمتها مبينة على القرارات.

والقرارات تتفاوت بحسب أهميتها نتيجة لمعايير مهمة منها معياري الأثر والتكلفة، فقرار أكل وجبة محددة أو تركها، ليس كقرار الزواج من عدمه بسبب التفاوت في المعايير المذكورة، ومثله قرار السفر الى مكان محدد ليس كقرار الهجرة من الوطن الى بلاد أخرى، وقس على ذلك.

كما أن القرارات تتفاوت كذلك بحسب معيار حجم المسئولية الملقاة على عاتق صاحب القرار التي تنعكس على حجم الأثر على المتأثرين به. فقرار الطالب أن يمتحن بمادة في مستوى محدد ليس كقرار مدير المدرسة بحرمان فصل كامل عن الامتحان بنفس المادة، ففي الحالة الأولى رغم المسئولية الكبيرة وآثارها السيئة، لكنها تظل على النطاق الشخصي وغير متعدية للغير، بينما في الحالة الثانية حالة الإثر متعدي إلى الغير، والمتضررون منها كثير، ومسئولية القرار في هذه الحالة كبيرة وتحتاج لمبررات منطقية مشفوعة بمستند قانوني لإنفاذه، وذلك نظرا لحجم الأثر المترتب على ذلك القرار، وقس على ذلك هذا التباين في حجم الأثر ومقدار المسئولية في أنواع القرارات ومستوياتها.

وإذا ما إخذنا قراراتنا الشخصية التي تعد مسئولياتها محدودة الأثر ومحدودة المسئولية ومحدودة التكلفة، فإنها لا تقل أهمية عن بقية القرارات بناء على حجم الآثار الناتجة عنها سلبا وإيجابا. ومع ذلك تواجهنا العديد من التحديات وربما المعضلات التي تؤثر بشكل كبير ومباشر على تلقائية اتخاذ قراراتنا الشخصية.

فمن بين تلك المعضلات: الجهل ونقص المعلومات مقابل العلم ووفرة المعلومات، والعاطفة الجياشة مقابل التعقل والتؤدة، والوهم والإغراق في الخيال مقابل الحقائق والوقائع، والمفاسد الناتجة مقابل المصالح المتوقعة، والمجابهة والتصدي، مقابل الانسحاب والرضوخ للأمر الواقع، وأخيرا القرارات المرتجلة المتسرعة مقابل القرارات المتأنية المدروسة.

وربما وجد بعض التداخل بين العوامل أعلاه لكن بمجموعها ربما تشي بحجم المعضلات التي يواجهها الجميع يوميا في اتخاذ قرارات روتينية في أغلب الأحيان، لكنها تصطدم بمعضلات شتى مثل: ضغط الواقع وحجم التسلط المفروض بحكم ثقافة البيئة، وانعدام هامش الحرية وضعف ثقافة تحمل المسئولية، يقابلها تخوف الآباء في البيوت والمدراء في المرافق من عواقب قرارات يتخذها الأبناء والموظفون، بعد أن قصروا في تحمل مسئولية تأهيلهم على تحمل نتائج قراراتهم، فيصبح الجميع جزء من معضلة يعاني من ويلاتها الجميع أيضا.

في الاسطر القادمة سوف نستعرض طرفا من تلك المعضلات على سبيل المثال لا الحصر ، فاتحا المجال للمهتمين بإثراء الموضوع حتى تكتمل الصورة المرجوة.

قراراتنا بين العلم والجهل ونقص المعلومات:

من بدهيات القرارات الرشيدة أنها تتغذى على المعلومات التي تفيد العلم وتنفي الجهل والجهالة بموضوع القرار. فكلما توفرت المعلومات وكانت أغزر مادة، وأدق محتوى، وأحدث توقيتا، كان أثرها المباشر كبيرا في اتخاذ قرارات أقرب الى الصواب، مثل ذلك: الطبيب الحاذق الذي يفترض من خلال خبراته تشخيص حالة المريض الذي بين يديه، لكن يظل هناك هامش كبير من الجهالة يحول دون اتخاذ قرار رشيد بوصف خطة علاجية للمريض، وحتى يتفادى هذه الجهالة يقوم بطلب مزيدا من التحاليل الطبية المتنوعة التي تعزز فرضياته، فإذا به يخبر المريض بقوله: “هذا ما توقعته قد أثبتته البيانات المتوفرة حديثا عن حالتك”.

وقراراتنا الشخصية لا تبعد كثيرا عن هذه الحالة، حيث أن عدم توفر المعلومات الدقيقة والحديثة؛ سواء بقصد أو بغير قصد، يحول دون اتخاذ قرارات رشيدة صائبة، وكثير من الناس هذا شانهم إلا من يعرف هذه الحقيقة، لذلك ترى قراراتهم تعاني من التخبط والتناقض التي غالبا ما تفرز نتائج عكسية تسبب آثارا سيئة على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والنفسي للمتأثرين بها.

قراراتنا بين العاطفة والتعقل:

العاطفة الجياشة بطبيعتها تحول دون إعمال العقل في النظر في العواقب والآثار، ومن شأن الأشخاص الذين تغلب عليهم العاطفة أن تكون قراراتهم بعيدة نسبيا عن الرشد بحسب شدة العاطفة وميولاتها. ومثال ذلك: من يثور غضبه على زوجته في لحظة موجة من العواطف السلبية، فيتخذ قرارا مدمرا ليس بحقها فقط بل بحقه أيضا وبحق الأسرة جميعا، فيندم أشد الندم بما تسبب به من الإضرار بصرح المنزل وتشريد الأسرة. فما أحوج مثل هذا للتعقل والتأني مهما كانت التضحيات والتنازلات التي يقدمها، والتي يعلم بعقله الذي تجاهله أنها ثمن بخس للإبقاء على أسرته مشمولة في أمان من عاطفته الهوجاء.

قراراتنا بين المصالح والمفاسد:

ربما تشتمل التفاصيل التي أوردناها آنفا طرفا من المصالح والمفاسد، والتفكير بهذا المنظار يحتاج الى العقل وليس العاطفة، فالعقل ميزان عظيم لتحقيق المصالح وتعظيمها ودرء المفاسد وتقليلها، وإذا غاب دور العقل وحلت العاطفة انقلب الميزان الى عكس المقصود، فتتفاقم المفاسد وتضمحل المصالح، حتى يعمل العقل وظيفته الصحيحة في اتخاذ القرار الرشيد وفقا لهذا المنطلق المهم والملح.

قراراتنا بين المواجهة والانسحاب:

وهذه صورة أخرى من صور تحكم العقل أو العاطفة في قراراتنا، فالكثير قد يلجأ الى الخيارات الصعبة؛ عاطفة وجهلا وليس علما وعقلا. فالمواجهة ليست بالضرورة دائما هي الخيار الصعب، بل قد يكون الانسحاب والتعقل هو الخيار الأقسى، والميزان في ذلك حجم الضرر ومقدار التأثير على متخذ القرار.

ومثال ذلك: قد يضطر أحد الجيران الى مواجهة جار السوء في مسألة مزمنة أو أكثر تورقه نتيجة عدم اعتبار حق الجار واحترام حقوق الجوار، وحينئذ كثيرا ما تتغلب العاطفة على اتخاذ مواقف غير مدروسة ، فتتفاقم المشكلة وتنفجر وربما يحصل ما لا يحمد عقباه، خصوصا إذا  أغلق أفق الحوار الودي بين الطرفين، وفي هذه الحالة يكون ثمن المواجهة باهظا للغاية، وقد يفضل خيار المدارة والصبر على الأذى عليه ، مع أنه قد يكلف ثمنا باهظا ولا شك، لكنه ثمن قليل إذا قورن بثمن خيار المواجهة، ومشكلته الكبرى طول أمد المعاناة، والتي قد تكون نتيجته ثوران بركان الغضب في أي لحظة.

 وأحيانا قد يغلب منطق العقل فيفضل خيار الانسحاب وإغلاق باب العلاقة الهزيلة وإسدال الستار على ماض مليء بالمعاناة، ومجددا قد يدفع ثمنا ولا شك في ذلك، لكنه ربما يكون أقل الأثمان المذكورة.  وتستطيع القياس على ذلك في الكثير من قراراتنا ومواقفنا التي ربما تحصل بشكل روتيني وباستمرار.

الخلاصة:

صناعة واتخاذ القرارات من أهم إنجازات المدارس الإدارية المعاصرة التي أولتها اهتماما بالغا ظهر من خلال تعدد أنشطتها العلمية بين تأليف وأبحاث ودراسات وأنشطة تدريبية وغيرها والتي أفادت كثيرا في إبراز أهمية هذه المهارة في اتخاذ قرارات إدارية وقيادية رشيدة تقل فيها نسبة الأخطاء والآثار السلبية بدرجة كبيرة. وبالمثل قراراتنا على المستوى الشخصي يجب أن نوليها اهتماما بالغا من خلال البرامج التي تنتج مهارات صناعة واتخاذ القرارات الرشيدة، بما يعظم آثارها الإيجابية ويقلص آثارها السلبية الى أبعد الحدود، فإن الفوائد المتحققة نفسيا وصحيا واجتماعيا واقتصاديا من جراء اتباع هذه المنهجية لا تقدر بثمن.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s