الناس موتى وأهل العلم أحياء

تراثنا العربي العظيم زاخر بكنوز تربوية وتعليمية كبيرة لاتخفى على القارئ الحصيف، وفكرتنا في هذه السلسلة إبراز بعض تلك المواضيع الأدبية شعرا ونثرا وحكما وقصصا وربما الخبرات والتجارب العلمية، بما يتماشى مع متطلبات ومدخلات وغايات مفهوم التنمية البشرية الذي بات شائعا ومتداولا على أوسع النطاقات .

هذا الطرح محاولة من الكاتب في الغوص في كنوز التراث العربي للاستفادة منه في إثراء برامج التنمية البشرية الهادفة الى الرقي بالإنسان ؛ أي إنسان من بني البشر.

هذه أبيات مختارة في الثناء على العلم والعلماء (*) :

الناس من جهة التفضيل أكفاءُ … أبوهم آدم والأم حــــــــــــــــواءُ
فإن لهمْ يكن من أصلهم شرفٌ … يفاخرون به فالطينُ والمـــــــاءُ
وما الفخر إلا لأهل العلم إنهمُ… على الهدى لمن استهدى أدلاءُ
وقيمة المرءِ ما قد كان يحسنهُ … والجاهلون لأهل العلمِ أعـــداءٌ
فَعِشْ بعلمٍ تَفُـزْ حيَّاً به أبدا … الناسُ موتى وأهلُ العلمِ أحـــــــياءُ

اخترنا هذه الابيات لشدة ارتباطها بمسألتين مهتمتين مما يتعلق بالتنمية البشرية وفق المفهوم المعاصر ، وهما :

المسألة الأولى : معايير التفاضل بين الناس، وقد أشار الشاعر الى ثلاثة معايير هي:

1- التفضيل بموجب النسب، وأرجع أصل أصوله الى آدم وحواء

2- التفضيل بموجب الشرف، وأرجع أصل أصوله الى الطين والماء

3- التفضيل بموجب العلم وقد اعتبره منبع الفخر الحقيقي لاسيما ما كان منه مرتبط بمصالح البشر في حياتهم ومعادهم .
المسألة الثانية : السمات السبع في ترجيح معيار العلم :

ونستطيع استخراج سبع سمات ذكرت صراحة أو ضمنا في الأبيات السابقة وهي:

1- أهل العلم أدلة ومرشدين إلى الهدى: ويمكن تعريف الهدى في الأبيات أنها : المنهج السليم والرأي السديد والطريق القويم في كل الأمور ، والمبنية على الحقائق العلمية سواء في أمور الدنيا أو الآخرة.

2- هذا الهدى لايمكن يناله إلا من (استهدى ): وهم طلبة العلم بمختلف أصنافهم وتخصصاتهم ، والذين يجتهدون في طلب العلم لأنهم يعلمون أهمية العلم وحقيقته، ولذلك فهم حريصون على طلبه من مضانِّه و البحث عنه عند أهله من أهل العلم بمختلف تخصصاتهم ، مع مراعاة العمق اللازم والشمول الوافي والتنوع الكافي.

3- أن قيمة المرء بحسب مايحمل من علم: فهو معيار تفاضل حقيقي عقلا وشرعا وطبعا، ويؤيد هذا ما جاء في الآية الكريمة : ” قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لايعلمون” الرعد (9) و ” قل هل يستوي الأعمى والبصير” الرعد (16)، ويؤكد هذه الحقائق ما درج على ألسنة الناس أن “العلم نور والجهل ظلام“.

4- قيمة المرء ما يحسنه من العلوم ” سواء الدينية أو الدنيوية، وهي العلوم المتنوعة في مختلف التخصصات والمستويات شريطة أن تكون نافعة للناس في دنياهم وأخراهم، بنوعيها النظرية العلمية الأكاديمية أو العملية التطبيقية التجربية . فكلما ازداد علم الانسان سعة وزادت خبراته العملية عمقا؛ ارتفع شأنه في مجال اختصاصه.

5- الجاهلون لأهل العلم أعداء : وهي حقيقة يُدمغ بها من يريد أن يفرض آرائه وأفكاره ومعتقداته المبنية على الظنون والأوهام ، ويزاحم بها من يقدم هذه المفاهيم وفق المبادئ العلمية الصحيحة المعتبرة . فشتان بين من يحكِّم الهوى والمزاج ومن يقدِّم الدليل والتجربة والبرهان في الأحكام وتقييم المفاهيم. وهذا هو منبع العداوة المفتعلة من أهل الجهل، كون العلم يدحض شبهاتهم ويعري واقعهم ويفضح مناهجهم، مما يؤدي الى فقدان مصالحهم والامتيازات التي بنوها على أباطيلهم وافتراءاتهم.

6- الحياة تحت ظلال العلم فوز الأبد: وهو الفوز في الدنيا والآخرة وذلك من وجهين:

فأما فوز الدنيا فهو : الرقي والازدهار وعمارة الدنيا واكتشاف خيراتها وثرواتها وإدارتها بطريقة علمية رشيدة تعود بالنفع على البشرية ، مع المكافحة علميا لأسباب ومصادر الفساد و مكامن الضرر والخطر الذي يلحق بالبشرية في شئون حياتها المعيشية.

وأما فوز الآخرة : فهو الوجه الآخر للفوز الحقيقي الشامل الذي يغفل عنه الكثير من العلماء على مختلف توجهاتهم ، فكثير منهم ” يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون” (الروم 7) وفي هذه الآية يقرر القرآن الكريم تعريف الفوز الحقيقي بمفهومه الشامل.

7- الناس موتى وأهل العلم أحياء : والمقصود الحياة المعنوية والموت المعنوي، فإن العلم نور والعلماء مصابيح يضيئون الجوانب المظلمة في حياة البشرية. وكلما قوي الدليل العلمي المبني على الحقائق الدامغة ، زاد صفاء ووهج المصباح، فزاد الانتفاع به، وكلما ضعف الاستدلال أو ضعفت منهجيته، خَفَتَ نورُه فقلت الاستفادة منه.

وفي هذا يمكن الإستئناس بالآية الكريمة ” ومن لم يجعل الله نورا فما له من نور” (النور 40)، جاءت الآية بعد أن قرر خالق الكون الجليل حقيقة خالدة أنه هو بذاته العلية نور السموات والأرض، و أن توجيهاته للبشرية مرجع رشيد لكل علم، ومنبع عظيم لكل حكمة: “الله نور السموات والأرض” (النور 35).

__________________________________________________

أرحب بمداخلاتكم على الموضوع

________________________________________________

(*) القصيدة كاملة منشورة في موقع الديوان منسوبة للإمام علي بن ابي طالب رضي الله عنه https://www.aldiwan.net/poem31209.html ، ومنشورة بإسم محمد بن الربيع الموصلي ، في كتاب “مختارات دار العلوم” ، من إصدارات مدارس دار العلوم ، الرياض 1431هـ. وموقع المكتبة الشاملة أثبتها للأخير لكنه في الحاشية ذكر أنها في ديوان الأمام علي.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s