الخسوف والكسوف بين الظاهرة الطبيعية والعقيدة الشرعية؟

مع كثرة تكرار ظاهرة الخسوف والكسوف في هذا الزمان، اختلف أكثر الناس – من المسلمين-  في تفسيرها على ثلاثة أقسام؛ فالقسم الأول: يراها ظواهر طبيعية وليس لها علاقة بأي معتقدات أو أحكام دينية شرعية، مع وجود  –قدر من – إيمان في صحة المعتقد الشرعي لديهم، ويستدلون على صحة قناعتهم بأن تلك ظواهر تسير وفق قوانين الطبيعية كما جرت بذلك العادة  منذ ان عرفوا أنفسهم إلى أن يودعون الدنيا، وأن العلم الحديث استطاع التنبؤ بها قبل حدوثها بوقت بعيد، وبالتالي كنت نتيجة هذا التفكير ان وجود هذه الظواهر أصبحت لا تحرك لديهم ساكنا في استشعار سبب إنشائها من قبل خالق الكون والتي هي الموعظة لعباده في زمن كثرة الفتن ومبارزة الله بالمعاصي والمنكرات.  فكان موقفهم ذاك نتيجة طبيعية لهذا التصور القاصر.

والقسم الآخر، يرى أنها عقيدة شرعية بحتة، مع وجود شكوك حول التفسير العلمي المعاصر للظاهرة، ويستدلون على صحة قناعتهم بالنصوص الكثيرة الواردة في تفسير هذه الظواهر في الكتاب والسنة، وتجد أكثرهم لا يلقون بالا للتفسيرات العلمية المنطقية المبنية على الحقائق العلمية، وبالتالي تراهم وقفوا بين موقفين: الأول: وجود الرهبة والخوف الشديد في قلوبهم من هذه الظواهر كما هو مأمور به شرعا من سبب إنشاء خالق الكون لها وكثرة المعاصي، فهم يحاولون تمثل ذلك في وجدانهم وسلوكهم ثم يسعون جاهدين  لإقناع الناس باعتناق هذه العقيدة، مع وجود التقليل والتحقير من شأن التفسير العلمي التجريبي لهذه الظواهر، بل يميلون للتشكيك فيها.

والموقف الثاني : أن هذا السلوك ولَّد حيرة كبيرة لدى أكثر الناس من اتباعهم؛ فما عادوا  يدرون من يصدقون ويتبعون؛ هل يتبعون أصحاب القسم الأول بما يبديه من أدلة قطعية وحقائق علمية، أم أصحاب القسم الثاني بما يبديه من براهين وأدلة صادقة شرعية، وهذا الاضطراب نتج عنه وجود  شكوك كبيرة لدى أكثر الناس أثر على الاتعاظ من وجود هذه الظواهر كما هو مأمور به شرعا، وهو ما يفسر أحوال اكثر الناس ومواقفهم اليوم هذه الظواهر.

وهناك قسم ثالث؛  جمعوا بين التفسيرات الإيجابية الواردة لدى القسمين، فزالت لديهم الشكوك المثارة بينهما تلقائيا،  فهم يرون أنه مع تطور الزمان وظهور العلم ووسائل البحث وأجهزة التجارب والاكتشاف، استطاعت التفاسير والحقائق العلمية لهذه الظواهر – وغيرها كثير – التي لا يستطيع العقل البشري إنكارها أو التهرب منها، أن تفرض نفسها على الجميع كواقع معاصر في توجيه الاعتقاد والسلوك،  فأصحاب هذا القسم اعتنقوا بقوة هذه الفكرة  ولكنهم تميزوا عن القسم الأول بأنها ظلت هذه عندهم نصف الحقيقة ليس إلا.

أما نصف الحقيقة الآخر، فإنه واضح جلي وبارز دون خفاء ولاشك ولاريب فيما حملته النصوص الشرعية في تفسير هذه الظاهرة والتفاعل معها التفاعل الشرعي المطلوب، كما هو الحال لدى اصحاب القسم الثاني، وهذا ولَّد لديهم توازن طبيعي وطمأنينة عظيمة بمسألة علمية لم تكن لتظهر الا في عصر العلم والتكنولوجيا، وهي قدرة الله العظيمة على تعليم عباده جزء من النواميس والقوانين التي تسير عليها ظواهر الكون، وهو من العلم القليل الذي من الله به على عباده ” وما أوتيتم من العلم الا قليلا ” .

وهذا التوازن بين النظرة الطبيعية والعقيدة الشرعية لظاهرة الخسوف والكسوف، هو الحق الذي يجب أن نميل اليه، لأنه يجيب على تساؤلات الشاكين، ويرد على التطرف في التفسير بين أصحاب القسمين السابقين، ويولَّد عمقا في الفهم لمقصود الله تعالى والحكمة من تعليمه لعباده، وأن شريعته صالحة لكل زمان ومكان، حتى لو كانت في قمة عنفوان الاختراعات والاكتشافات العلمية ، ولا يخفى ما لهذا النوع من التفكير من عمق كبير في الاعتقاد والسلوك.

ويستطيع أصحاب القسم الثالث الاستدلال على فكرتهم بقصة نوح وابنه، حينما رزق الله نبيه نوحا حينما استوعب عقله قصد الله تعالى بإغراق الارض في زمنه، فنظر نظرة متوازنة الى الجانب الشرعي والجانب الطبيعي في تحقيق  ذلك المقصد العظيم. فكان الجانب الشرعي قراره بضرورة تنفيذ أمر الله وفق الوسائل والضوابط التي حددها له وهي السفينة وما اليها.

 وكانت طبيعة التعاطي مع ظاهرة الأمواج الهائلة كظاهرة طبيعية، أن استعد لها  بصنع تلك السفينة – ولو أنها بسيطة الصنع  ” ذات ألواح ودسر” – الا أن ذلك كان أقصى جهد يبذله بشر للتغلب على هذه الظاهرة والتفاعل معها، وبذل الأسباب المشروعة والمتيسرة ، ولكن على نور من الله وتحت رعايته وعناية وتعليمه. فكان من الطبيعي أن يوجد التوازن في تفكير الأب نوح عليه السلام ،  الذي ورَّث لديه حسن النظر ودقة  الاستدلال وتقدير الأمور من كافة جوانبها ، وليس من زاوية شرعية أو طبيعية بحتة، مع أن الكل من عند الله وبتعليم الله وحكمته وقدره.

وبالمقابل ، فإن موقف الابن كان النظر المجرد الى الجانب الطبيعي الصرف، فصدر منه الجواب لأبيه حينما خاطبه: ” يا بني اركب معنا ولاتكن مع الكافرين” ، في إشارة على التمايز بين سبيل المؤمنين وسبيل الكافرين،  فكان جواب الابن: ” سآوي الى جبل يعصمني من الماء” ظنا منه أنه سيحقق النجاة بسبب طبيعي وهو صعود أعالي قمم الجبال، فرد عليه الأب المطلع على حقيقة الأمر متحسرا وبكل يقين وثقة : ” لا عاصم اليوم من أمر الله الا من رحم ”  في إشارة الى أن الأسباب الطبيعية لا يمكن أن تحول دون تحقيق أمر الله الشرعي، ولذلك عقب الله تعالى بحسم النتيجة بين الفريقين : “فحال بينمهما الموج فكان من المغرقين”.

والخلاصة في ظاهرة الخسوف والكسوف وما شابهها من الظواهر مما كثر عنه الحديث في زمن التطور العلمي والتكنولوجي، يجب التوازن في الحكم على تلك الظواهر بين النظرة الطبيعية المبنية على الحقائق العلمية الصرفة التي تجبر العقل السليم على تصديقها والوثوق بها، باعتبارها فضل و نعمة من الله علينا في هذا الزمان،  وبين نصوص الشرع الصريحة والصحيحة التي لامجال للقلوب المؤمنة التنازل عنها،  يلي ذلك اتباع منهج عقدي وسلوكي مبني على هذا التوازن الحكيم، حتى تستقيم لنا الأمور في الدنيا والدين.

ودمتم سالمين ///

حرر بتاريخ14ذي القعدة 1439 الموافق 28 يوليو 2018

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s